كنت أجلس وحدي في غرفة صغيرة خالية٬ ألملم وأهدهد روحي في صمت. لكن يبدو أن ضجيج أنّات روحي الجريحة قد وصل إلى مسامعك بشكل أو بآخر. لم أكن أسعى إلى الشكوى٬ ولم أطمح أن ألقى منك هذا الاهتمام. لكنك أدهشتني في تلك الليلة.
كانت النوافذ والأشياش مغلقة٬ فأنا أخشى الليل٬ وأصوات طيور الظلام٬ والحملقة في فراغ السماء الأسود. لكني رأيت حمامة بيضاء ترفرف كالفراش٬ تأتي من بعيد. صارت تقترب وتقترب٬ وتعلو وتنخفض٬ وتتراقص في الهواء٬ في كل الاتجاهات.
كانت تحمل لي دعوة منك لحفل ملكي ضخم.
فرحت بالدعوة٬ لكني ترددت في تلبيتها٬ فلم أرى نفسي مستعدة لحضور حفل على هذا القدر من الفخامة والمجد. وعجبت لاهتمامك بدعوتي على هذا النحو الشخصي. لكني لم أحصل على مثل هذه الفرصة من قبل٬ أو لعلي لم أنتبه لدعواتك السابقة٬ فأنا لم أكن أولي مثل هذه الدعوات وتلك الحفلات اهتماما. والحقيقة أن سعادتي بالدعوة جعلتني أدرك أنني كنت أشتاق إليها دون أن أدري ذلك.
نظرت إلى ملابسي البسيطة بحِيرة٬ وفهمَت الحمامة ما يقلقني٬ لكنها قالت لي ألا أشغل بالي بإذا ما كانت ملابسي لائقة أم لا٬ فهي تعرف أنك ستتكفل بهذا الأمر. وفتحت النافذة٬ وأشارت لي أن أتقدم٬ فتبعتها.
وما أن رفعت قدمي نحو النافذة حتى وجدت نفسي أقف على أول سلم رخامي أبيض عريض من ثلاث درجات٬ وأنت أيها الملك العظيم واقف أعلاه٬ وكوكبة من نجوم تتلألأ من حولك.
كنت تقف على باب قاعة الحفل٬ في انتظاري. لم أكن قد أفيقت بعد من انبهاري لدعوتك لي٬ وإذا بك تستقبلني بنفسك عند باب القاعة! من أين لي بكل هذا التقدير والإعزاز٬ وأنت صاحب الجاه والسلطان؟
بنظرة حانية وبسمة ودودة مشمسة٬ تقدمت نحوي٬ ومددت لي يمينك٬ لتساعدني في الصعود. كنت خجلة من دخول القاعة إلى جوارك بملابسي البسيطة تلك٬ لكنك كنت تعرف ما يدور بفكري. وقبل أن نصل إلى باب القاعة كنت قد أهديتني خاتما من الـذهب والألماس في يدي٬ وألبستني تاجا مماثلا على رأسي٬ ووضعت على كتفي رداء طويل يليق بالأميرات٬ ناصع البياض ومطرز بخيوط الذهب٬ ومنحتني جناحين.
في غمضة عين٬ بدلتني من حال إلى حال٬ وأحاطني سخائك بسحابة من جمال وبهاء.
ما أن وقفنا على باب القاعة٬ حتى صدحت الأبواق بألحان جميلة٬ بدت لي مألوفة. وتقدمت إلى الأمام ويدي لا تزال في يدك٬ وللحال أدركت أن تلك الألحان هي لأغنيات رومانسية أحبها. إلتفت إليك غير مصدقة أنك لم تغفل حتى أصغر اهتماماتي. وفهمت ساعتها سبب حبي لتلك الأغنيات٬ فقد كانت كلها تحدثني عنك دون أن انتبه يوما لذلك٬ وكأنك كنت تهديها دوما إلى لتلفت انتباهي إليك.
سرنا نتقدم حتى وصلنا إلي المساحة المخصصة للرقص٬ وكانت مستديرة٬ وتضيئها ألوان قوس قزح من كل الجهات٬ ويزيدها إبهارا وبهجة انعكاس الآشعة الملونة عبر أرضيتها البلورية. كان النور يحيطني بالكامل٬ وإذا بك تهمس بأذني: “من اليوم٬ صار اسمك المتسربلة بالنور.”
ثم بإشارة منك٬ بدأ عزف موسيقى الفالس٬ لم أكن قد رقصته من قبل٬ لكني استسلمت لقيادتك٬ وصرنا نميل بخفة يمينا ويسارا وندور برشاقة وكأننا نتزلج على الجليد. وأخذت أثق في خطواتي معك تدريجيا. وحين لاحظت أنت ذلك صرت تزيد من سرعة الخطوات٬ متزامنا مع تسارع إيقاع الموسيقى٬ حتى صارت قدميٌ بالكاد تلامسان الأرض.
ثم طوقتني وأخذنا ندور ونعلو وندور ونعلو. فنظرت لأعلى وإذا السماء من فوقنا مرصعة بأبهى النجوم٬ والشمس والقمر مبتهجان لرقصنا. وبلغنا ارتفاعات شاهقة للغاية٬ فنظرت لأسفل لأرى كم ابتعدنا عن الأرض٬ وخفت فجأة من السقوط اذا أفلتتني يداك. لكنك أمسكت بذقني ورفعت رأسي برفق٬ وقلت لي: “لا تخافي. أنتِ لي وأنا حاميكي. لا تنشغلي إلا بصحبتي وعشرتي وانهلي من حلاوتها قدر ما شئتي واستطاعتي. وإن خشيتى السقوط-ـ وهو ما لن يحدث أبدا طالما أني ممسك بك وأنت بي ـ فما عليكى إلا فرد جناحيك”.